تسعير المعاملات – ليس مجرد التزام، بل درع واقٍ من “كابوس التدقيق”
في ظل التحول الاقتصادي ورؤية 2030، لم يعد تسعير المعاملات إجراءً هامشيًا، بل ركيزة أساسية للحوكمة والاستدامة المالية للشركات السعودية.هذا يضع مسؤولية متزايدة على المحاسبين لفهم وتطبيق قواعده بدقة، خاصة مع تزايد الانفتاح الاقتصادي والاستثمارات.
التحذير “تجنب كابوس التدقيق!” يعكس واقعًا؛ فملف تسعير المعاملات الخالي من الأخطاء هو خط الدفاع الأول ضد تدقيق ضريبي قد يصبح “كابوسًا”. الإدارة غير الفعالة تعرض الشركات لمخاطر جسيمة كالغرامات، والإضرار بالسمعة، ونزاعات ضريبية مكلفة. “كابوس التدقيق” ينجم عن تعقيد القواعد وزيادة نشاط التدقيق من هيئة الزكاة والضريبة والجمارك (ZATCA)، مما يتطلب من المحاسبين دورًا استشاريًا لإدارة المخاطر.
2-فك رموز الإطار التنظيمي لتسعير المعاملات في المملكة: ما يجب أن يعرفه كل محاسب
يستند الإطار التنظيمي السعودي لتسعير المعاملات إلى مبادرة مكافحة تآكل الوعاء الضريبي وتحويل الأرباح (BEPS) لمنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OECD) ومجموعة العشرين (G20)، بهدف ضمان خضوع الأرباح للضريبة حيث تُخلق القيمة. أبرز التشريعات هي قرار مجلس إدارة الهيئة رقم (19-1-6) بتاريخ 25/5/1440هـ، و”الدليل الإرشادي لتسعير المعاملات”.
التعديلات اللاحقة وسعت نطاق التطبيق ليشمل دافعي الزكاة الذين تتجاوز معاملاتهم البينية مع الأشخاص المرتبطين 6 ملايين ريال سعودي سنويًا. هذا التطور السريع، رغم أنه يعكس التزامًا بأفضل الممارسات، قد يخلق “فجوة معرفية” تتطلب برامج تدريبية متخصصة لسدها.
3-متطلبات الامتثال الأساسية: حجر الزاوية لتجنب أخطاء ملف تسعير المعاملات
الامتثال يتطلب توثيقًا شاملاً ومتزامنًا للمعاملات البينية لإثبات الالتزام بمبدأ السعر المحايد.
التوثيق الشامل والمتزامن:
- الملف الرئيسي (Master File): يقدم نظرة عامة على مجموعة الشركات متعددة الجنسيات، هيكلها، أنشطتها، وسياسات تسعير معاملاتها.
- الملف المحلي (Local File): يركز على الكيان المحلي ومعاملاته البينية، ويجب أن يتضمن تحليلاً اقتصاديًا يثبت التوافق مع مبدأ السعر المحايد. “عدم وجود توثيق كافٍ، خاصة الملف المحلي، في وقت التدقيق… يجعل من الصعب للغاية التوصل إلى نتيجة إيجابية”.
- تقرير كل دولة على حدة (CbCR): مطلوب من المجموعات التي تتجاوز إيراداتها الموحدة عتبة معينة (عادة 750 مليون يورو)، ويقدم معلومات مجمعة عن توزيع الدخل والضرائب عالميًا.
أهمية “التوثيق المتزامن” تكمن في إعداد الملفات قبل أو بحلول وقت تقديم الإقرار السنوي. المهلة القصيرة (30 يومًا لتقديم الملف المحلي والرئيسي عند الطلب) تجعله ضرورة عملية.
نماذج الإفصاح والشهادات المطلوبة:
- نموذج الإفصاح عن المعاملات بين الأشخاص المرتبطين: يقدم مع الإقرار السنوي، ويتضمن معلومات عن الأطراف المرتبطة والمعاملات.
- شهادة المدقق الخارجي: مطلوبة في المملكة، حيث يؤكد مدقق خارجي مرخص أن سياسة تسعير المعاملات للمجموعة طُبقت باتساق وأن نموذج الإفصاح دقيق. هذا يرفع مستوى الامتثال إلى مسألة حوكمة على مستوى مجلس الإدارة.
الطرق المعتمدة لتحديد السعر المحايد:
تعتمد ZATCA خمس طرق رئيسية مستمدة من إرشادات OECD 1: طريقة السعر الحر المقارن (CUP)، طريقة سعر إعادة البيع (RPM)، طريقة التكلفة مضافًا إليها هامش الربح (CPM)، طريقة صافي هامش المعاملات (TNMM)، وطريقة تقسيم الأرباح (PSM). يُسمح بـ”طريقة أخرى” بشروط. صعوبة الحصول على بيانات مقارنة محلية موثوقة قد تؤدي لنزاعات.
المواعيد النظامية والجزاءات:
يجب الالتزام بالمهل (نموذج الإفصاح والشهادة مع الإقرار السنوي؛ الملف المحلي والرئيسي جاهزان عند تقديم الإقرار ويُقدمان خلال 30 يومًا من الطلب). عدم الامتثال يؤدي لتعديلات ضريبية، غرامات، وتأثير سلبي على السمعة.
4-الأخطاء الشائعة في ملفات تسعير المعاملات: كيف يتجنبها المحاسبون؟
الأخطاء في ملف تسعير المعاملات غالبًا ما تكون في الحكم والتقدير أو سوء تطبيق المنهجيات.
- تحديات التوثيق: التعقيد في إعداد الملف الرئيسي والمحلي قد يؤدي لأخطاء أو نقص. نقص البيانات الكافية أو الاعتماد على بيانات غير موثوقة، خاصة في التحليل المقارن، شائع. عدم التزامن في إعداد الوثائق خطأ فادح.
- سوء تفسير الإرشادات وتطبيق مبدأ السعر المحايد:الفهم السطحي لمبدأ السعر المحايد أو إرشادات OECD وتفسيراتها المحلية قد يؤدي لتطبيق خاطئ للطرق المعتمدة.
- مشاكل المقارنات (Benchmarking): ندرة البيانات المقارنة المحلية الموثوقة تمثل تحديًا. تجاهل متطلبات ZATCA الصارمة للمقارنة (مثل تفضيل شركات الشرق الأوسط أو استبعاد الشركات الخاسرة) يعتبر خطأً.
- إغفال أو سوء التعامل مع المعاملات المعقدة: عدم وجود سياسات تسعير خدمات مدعومة للمقرات الإقليمية (RHQ) أو عدم إثبات أن الأرباح في المناطق الحرة لم تُحول بشكل مصطنع هي أخطاء شائعة.
نقص الخبرة المتخصصة أو عدم تخصيص موارد كافية غالبًا ما يكون السبب، مما يؤكد أهمية التدريب أو الاستعانة بخبراء.
5-مؤشرات التدقيق لدى هيئة الزكاة والضريبة والجمارك: ما الذي يلفت انتباه الفاحصين؟
تعتمد ZATCA نهجًا قائمًا على المخاطر في اختيار الشركات للتدقيق. أبرز المحفزات:
- الخسائر المتكررة: كيانات تسجل خسائر لسنوات متتالية، خاصة مع مدفوعات خارجية كبيرة لأطراف مرتبطة، تعتبر “إشارة حمراء”.
- ترتيبات عمل الموظفين “Fly-in, fly-out” ومخاطر المنشأة الدائمة: تثير مخاوف بشأن تسعير الخدمات واحتمالية إنشاء منشأة دائمة للكيان الأجنبي.
- التعديلات التنازلية أو التصاعدية (True-downs/True-ups): تعديلات نهاية الفترة لتحقيق هامش ربح مستهدف تثير تساؤلات حول منطقها.
- عدم كفاية التوثيق أو تأخيره: السبب الأكثر شيوعًا للنتائج السلبية في التدقيق.
يمكن للمحاسبين استخدام هذه المؤشرات كأداة “مراجعة داخلية”.
6-بناء القدرات وتطوير الخبرات: دور المحاسب في منظومة تسعير المعاملات
تبرز أهمية بناء كوادر وطنية متخصصة. البرامج التدريبية، مثل “تسعير المعاملات بين الأشخاص المرتبطة”، تهدف لتأهيل المتخصصين الضريبيين لتحليل المعاملات، تحديد السعر المحايد، اختيار الطريقة الأنسب، وإعداد ملفات التوثيق. الحاجة ماسة لمتخصصين سعوديين مؤهلين مع تزايد نشاط التدقيق. الالتزام بتسعير المعاملات يتطور ليصبح ميزة استراتيجية، والمحاسب يلعب دورًا رئيسيًا في هذا التحول. يتشكل تخصص “خبير تسعير المعاملات السعودي” الذي يتطلب فهمًا للقواعد المحلية، الآثار الزكوية، إرشادات OECD، والتطبيق العملي.
7-أدوات استشرافية لليقين الضريبي: نظرة على اتفاقيات التسعير المسبق (APAs)
قدمت المملكة برنامج اتفاقيات التسعير المسبق (APAs) لتعزيز الشفافية واليقين الضريبي. الـ APA هو عقد بين المكلف وZATCA (وقد يشمل سلطة ضريبية أجنبية) لتحديد منهجية تسعير معاملات معينة مسبقًا لعدة سنوات. انطلق البرنامج رسميًا في 1 يناير 2024، ويركز حاليًا على الاتفاقيات الأحادية (Unilateral APAs)، مع توقعات بإدخال الاتفاقيات الثنائية (Bilateral APAs) مستقبلًا.
شروط الأهلية تستهدف المعاملات التي تزيد قيمتها السنوية عن 100 مليون ريال سعودي، مع مرونة للمعاملات المعقدة ذات القيمة الأقل بموافقة مسبقة. تمتد صلاحية الـ APA عادة لثلاث سنوات، ولا تُطبق بأثر رجعي. العملية تشمل اجتماعًا تمهيديًا، طلبًا رسميًا، تحليلًا ومناقشات، ثم تفاوضًا وصياغة. الفوائد تشمل اليقين الضريبي وتقليل النزاعات، لكنها تتطلب موارد كبيرة. قد تطلب ZATCA إثبات تطبيق الطريقة المقترحة تاريخيًا، مما قد يعمل كـ”تدقيق غير مباشر للفترات السابقة”.
8-توصيات استراتيجية للمحاسبين: نحو ملف تسعير معاملات خالٍ من الأخطاء
لتحويل تحديات الامتثال إلى فرص:
- الاستثمار في بناء القدرات الداخلية والتدريب المستمر: تدريب الفرق المالية والضريبية ضروري، بالاستفادة من برامج متخصصة أو خبراء.
- التوثيق الاستباقي والشامل: يجب أن تكون وثائق تسعير المعاملات “حية”، تُعد بشكل متزامن وتُحدث بانتظام.
- مراقبة التطورات التشريعية والتنظيمية باستمرار: البقاء على اطلاع دائم بتعليمات ZATCA والممارسات الدولية.
- إجراء مراجعات دورية لسياسات تسعير المعاملات: تقييم السياسات سنويًا للتأكد من ملاءمتها للتغيرات.
تبني هذه التوصيات يحول المحاسب إلى شريك استراتيجي. الامتثال القوي يعزز سمعة الشركة وجاذبيتها الاستثمارية.
المحاسب ودوره المحوري في تحقيق الامتثال الضريبي الذكي وتجنب “كابوس التدقيق”
تسعير المعاملات جزء حيوي من الإدارة المالية والاستراتيجية في السعودية. الفهم العميق لتعليمات ZATCA، الالتزام بمبدأ السعر المحايد، والاستعداد الجيد للتوثيق ضرورات حتمية. الامتثال الاستباقي يوفر الحماية ويفتح آفاقًا للتحسين. المعرفة والخبرة أساسيتان، والشركات التي تستثمر في بناء قدرات فرقها وتتبنى نهجًا استراتيجيًا هي الأقدر على تحويل التحديات إلى فرص. يلعب المحاسب دورًا محوريًا، والاستثمار في تعلمه وتطويره استثمار حكيم. ندعو المحاسبين لتطبيق هذه الرؤى لضمان ملفات تسعير معاملات “خالية من الأخطاء” وتجنب “كابوس التدقيق”.